مفهوم الجماعة الترابية في المغرب

مفهوم الجماعة الترابية: قراءة معمقة في المفهوم والدلالات والوظائف

تمثل الجماعة الترابية إحدى الركائز الأساسية لتنظيم الدولة الحديثة، باعتبارها وحدة إدارية ولا مركزية تعمل على تدبير الشأن العام المحلي وفق مبادئ الحكامة والديمقراطية المحلية. وقد برز هذا المفهوم بشكل جلي في سياق التحولات التي عرفتها أنظمة الحكم عبر العالم، حيث أصبحت اللامركزية الإدارية والسياسية آلية لتقريب الإدارة من المواطن، وتعزيز المشاركة المجتمعية، وتحقيق التنمية المندمجة والمستدامة في إطار خصوصيات كل مجال ترابي.

تعريف الجماعة الترابية

الجماعة الترابية هي وحدة إدارية ولا مركزية من وحدات التنظيم الإداري للدولة، تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري، وتُمنح صلاحيات تدبيرية وتقريرية في مجموعة من المجالات المحلية، بهدف تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية داخل نطاقها الجغرافي. ويُطلق هذا المفهوم على كل من الجماعة (البلدية أو القروية)، الإقليم أو العمالة، والجهة، وهي مستويات ترابية منصوص عليها قانوناً داخل النظام الإداري للدولة.

الجماعة الترابية لا تمثل فقط مستوى من مستويات الإدارة المحلية، بل إنها تعكس في بنيتها ووظائفها توجهات الدولة نحو اعتماد الديمقراطية التشاركية وتوزيع السلطات بطريقة أكثر عقلانية وعملية، استناداً إلى مبدأ التفريع (Subsidiarity) الذي يقضي بإسناد اتخاذ القرار إلى أقرب مستوى ممكن من المواطن.

الإطار القانوني والتنظيمي للجماعة الترابية

في العديد من الدول، يتم تأطير الجماعات الترابية بقوانين تنظيمية خاصة تُحدد اختصاصاتها، طرق انتخاب أجهزتها التقريرية، علاقة هذه الجماعات بالدولة ومؤسساتها، والآليات الكفيلة بضمان حكامة جيدة في تدبيرها. ففي السياق المغربي مثلاً، شكل دستور 2011 نقلة نوعية في هذا الإطار، حيث تم التنصيص في الفصل الأول على أن “التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لا مركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة”، وفي الباب التاسع منه تم تخصيص فصول كاملة للجماعات الترابية، مؤكداً على استقلالها المالي والإداري وعلى دورها في تحقيق التنمية المحلية.

وقد صدرت على إثر هذا الدستور قوانين تنظيمية لكل مستوى من مستويات الجماعة الترابية (القانون التنظيمي 111.14 للجهات، 112.14 للعمالات والأقاليم، 113.14 للجماعات)، مما أرسى إطاراً قانونياً شفافاً وواضحاً لتدبير الشأن العام المحلي، ومنحها اختصاصات موسعة واستقلالية أكبر.

المستويات الثلاثة للجماعة الترابية

تنقسم الجماعات الترابية إلى ثلاث مستويات رئيسية، تختلف فيما بينها من حيث الاختصاصات والمجال الترابي وعدد السكان وطبيعة المهام:

1. الجماعة (البلدية أو القروية):
   تمثل الوحدة القاعدية في التنظيم الترابي، وتُعنى بتدبير الشؤون اليومية للمواطنين على المستوى المحلي، مثل النظافة، الإنارة، تنظيم الأسواق، صيانة الطرق، والنقل العمومي المحلي. ويُنتخب مجلسها بالاقتراع العام المباشر.

2. العمالة أو الإقليم:
   تشكل مستوى وسيطاً بين الجماعة والجهة، وتُناط بها مهام تنسيقية وتنموية في إطار التعاون والتكامل مع الجماعات الواقعة تحت نفوذها. وتُنتخب مجالس العمالات أو الأقاليم بشكل غير مباشر من طرف أعضاء المجالس الجماعية.

3. الجهة:
   تُعتبر المستوى الترابي الأعلى، وتمارس اختصاصات استراتيجية في مجالات التخطيط الجهوي، التنمية الاقتصادية، التكوين المهني، الاستثمار، وتنسيق السياسات القطاعية على مستوى الجهة. ويُنتخب مجلسها بالاقتراع العام المباشر، ويترأسه رئيس منتخب، مما يكرس الجهوية كرافعة للتنمية المتوازنة.

اختصاصات الجماعات الترابية

تختلف اختصاصات الجماعات الترابية باختلاف مستواها، غير أن جميعها تتقاطع في كونها تروم خدمة المواطن وتحقيق التنمية المستدامة. ويمكن تصنيف هذه الاختصاصات إلى ثلاثة أنواع:

• اختصاصات ذاتية: وهي الاختصاصات التي تمارسها الجماعة الترابية بشكل مستقل، وتشمل مجالات كالتنظيم الحضري، البيئة، النقل، الثقافة، الرياضة، الخدمات الاجتماعية، وغيرها.

• اختصاصات مشتركة: تُمارس بتعاون مع الدولة أو مع جماعات ترابية أخرى، مثل التعليم، الصحة، الحماية الاجتماعية.

• اختصاصات منقولة: تُنقل من الدولة إلى الجماعة الترابية بموجب تفويض قانوني، وتُمارس ضمن شروط معينة وتحت رقابة لاحقة.

أهمية الجماعة الترابية في التنمية

تلعب الجماعات الترابية دوراً محورياً في تحقيق التنمية الشاملة، نظراً لقربها من المواطنين وإلمامها بالخصوصيات المجالية والاقتصادية والاجتماعية لكل منطقة. ويمكن حصر أبرز أدوارها في النقاط التالية:

• تعزيز الديمقراطية المحلية: من خلال إشراك المواطنين في اتخاذ القرار عبر آليات التشاور العمومي، وهيئات المساواة وتكافؤ الفرص، والمبادرة التشريعية المحلية.

• تنمية الاقتصاد المحلي: عبر دعم المقاولات الصغرى والمتوسطة، تشجيع الاستثمار، توفير البنية التحتية، وتنشيط الأسواق المحلية.

• تحقيق العدالة المجالية: من خلال تقليص الفوارق بين المناطق وتوجيه الاستثمارات نحو المناطق المهمشة.

• تحسين جودة الحياة: من خلال توفير الخدمات الأساسية كالنقل، النظافة، الماء والكهرباء، والصحة والتعليم.

• مواكبة التحولات البيئية: عبر سياسات محلية لحماية البيئة، تدبير النفايات، تشجيع الطاقات المتجددة، والحفاظ على التنوع البيولوجي.

الحكامة في تدبير الجماعة الترابية

تُعد الحكامة الجيدة من الشروط الأساسية لنجاح الجماعة الترابية في أداء مهامها، وهي تقوم على مبادئ الشفافية، المساءلة، المشاركة، النجاعة، والفعالية. وتتطلب الحكامة اعتماد مقاربات حديثة في التدبير، منها:

• التخطيط الاستراتيجي التشاركي: الذي يضع المواطن في قلب عملية التنمية.

• الرقمنة وتبسيط المساطر: لضمان ولوج المواطن للخدمات العمومية بطريقة سريعة وفعالة.

• تأهيل الموارد البشرية: من خلال التكوين المستمر والتخصص، لضمان أداء إداري متميز.

• التدبير المالي الرشيد: الذي يوازن بين النفقات والاستثمارات ويخضع للرقابة الداخلية والخارجية.

تحديات الجماعة الترابية

رغم الأدوار المتقدمة التي يمكن أن تضطلع بها الجماعات الترابية، فإنها تواجه مجموعة من التحديات التي تحد من فعاليتها، أبرزها:

• ضعف الموارد المالية: مما يحد من إمكانياتها في تنفيذ المشاريع الكبرى.

• النقص في الكفاءات الإدارية والتقنية: خاصة في بعض المناطق النائية.

• البيروقراطية وضعف التنسيق: بين الجماعات الترابية والمصالح المركزية للدولة.

• ضعف مشاركة المواطن: سواء في التصويت أو في تتبع السياسات العمومية المحلية.

• الفوارق المجالية: حيث تتركز الموارد والإمكانيات في بعض الجهات دون أخرى، مما يعمق الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي.

أدوار الفاعلين المحليين في تنشيط الحياة الترابية

تعتبر الجماعة الترابية فضاءً تفاعلياً للعديد من الفاعلين، الذين تندمج أدوارهم في خدمة التنمية المحلية:

• المنتخبون المحليون: الذين يضطلعون بصياغة السياسات المحلية واتخاذ القرارات ذات الصلة بالشأن العام.

• الإدارة الجماعية: التي تشكل الأداة التنفيذية لمختلف المشاريع والقرارات.

• المجتمع المدني: بما يضمه من جمعيات ومنظمات، يمثل قوة اقتراحية ورقابية.

• القطاع الخاص: الذي يُعد شريكاً أساسياً في الاستثمار وخلق فرص الشغل.

• الساكنة المحلية: باعتبارها المستفيدة الأولى من خدمات الجماعة، وهي محور السياسات العمومية.

علاقة الجماعات الترابية بالدولة

رغم الطابع الاستقلالي للجماعات الترابية، فإنها تظل مرتبطة بالدولة من خلال مبدأ وحدة الدولة وضرورة احترام السياسات العامة الوطنية. وتُمارس الدولة وظيفة التتبع والتقويم عبر:

• الولاة والعمال: الذين يمثلون السلطة المركزية على المستوى المحلي.

• مفتشيات الإدارة الترابية ووزارة الداخلية: التي تسهر على تأطير ومراقبة عمل الجماعات الترابية.

• المجالس الجهوية للحسابات: التي تراقب التدبير المالي والإداري للجماعات الترابية.

آفاق تطور الجماعة الترابية

إن مستقبل الجماعات الترابية يرتبط بمدى قدرتها على التجديد والتكيف مع التحديات المستجدة، وعلى رأسها:

• الرقمنة والتحول الرقمي: عبر تطوير الخدمات الإلكترونية وتوظيف الذكاء الاصطناعي في تحسين التدبير المحلي.

• العدالة المناخية: من خلال بلورة سياسات بيئية مستدامة لمواجهة التغيرات المناخية.

• التمويل البديل: باللجوء إلى الشراكات الدولية، التعاون اللامركزي، وصناديق التنمية المحلية.

• إصلاح منظومة التكوين: لتأهيل النخب المحلية وجعلها قادرة على قيادة التحولات الترابية.

جدول يوضح مستويات الجماعة الترابية واختصاصاتها

خاتمة

يُمثل مفهوم الجماعة الترابية تجسيداً فعلياً لتحول عميق في تصور الدولة الحديثة لوظيفة الإدارة المحلية، حيث لم تعد الجماعة مجرد وحدة تنفيذية، بل أصبحت فاعلاً استراتيجياً في التنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية. ومع تزايد التحديات المعاصرة، يصبح من الضروري الاستثمار في تطوير الجماعة الترابية على كافة المستويات، بما يضمن فعالية أدائها، واستجابة سياساتها لانتظارات المواطنين، ويُسهم في ترسيخ حكامة ترابية ناجعة تحقق التوازن بين المركز والمجال، بين السلطة والمسؤولية، وبين التنمية والعدالة.

المراجع

1. دستور المملكة المغربية لسنة 2011.

2. القوانين التنظيمية للجماعات الترابية (111.14، 112.14، 113.14).